
بقلم: الدكتور خضر عيسى الرجبي
أستاذ مساعد تكنولوجيا التعليم والتعلم الإلكتروني – كلية الدراسات العليا
جامعة القدس المفتوحة -فلسطين
مقدمة
يدخل الذكاء الاصطناعي (AI) في صلب العملية التعليمية بوتيرة متسارعة، مما يبشر بتحولات جذرية في أساليب التصميم التعليمي وإعداد الخبرات التعليمية. لم يعد توظيف التقنيات الذكية أمراً ثانوياً، بل غدا عنصراً أساسياً لإثراء تجربة التعلم وجعلها أكثر تفرداً وتكيفاً مع احتياجات المتعلمين. تشير الدراسات الحديثة إلى أن دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم يسهم في تحقيق الأولويات التعليمية بفعالية أكبر وبتكلفة أقل، خاصة في أعقاب التوسع في التعلم عن بُعد والتعليم المدمج بعد الجائحة (الحناكي والحارثي، 2023). تشير تقارير سوقية حديثة إلى نمو متسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي التعليمية، مع اختلاف التقديرات تبعاً لمصدر القياس والمنهجية. في هذا السياق، يبرز سؤال ملحّ: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي إعادة تشكيل التصميم التعليمي وابتكار طرائق جديدة للتعلم؟
هذه المقالة تستكشف طرق استخدام الذكاء الاصطناعي وأهميته في التصميم التعليمي، مستعرضةً أحدث ما توصلت إليه الأبحاث العربية والأجنبية في هذا المجال. سنخوض أيضاً في تجربة شخصية مع طلبة الدراسات العليا في مقرر "تصميم التعلم الإلكتروني"، حيث استخدمت مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي بصورة إبداعية في مشروع تطبيقي. وأخيراً، سنناقش فوائد أدوات الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة إعداد رسائل الماجستير، وما تقدمه من دعم في مراحل البحث والكتابة الأكاديمية.
الذكاء الاصطناعي والتصميم التعليمي: لمحة عامة
التصميم التعليمي هو العملية التي يتم من خلالها تخطيط وتطوير وتنفيذ التجارب التعليمية والمناهج بشكل منهجي لتحقيق أهداف تعلم محددة. تقليدياً اعتمد المصممون التعليميون على نظريات التعلم ونتائج التقييمات لتكييف المحتوى وطرق التدريس. أما اليوم، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي لاعباً رئيسياً يمكنه إحداث نقلة نوعية في هذا المجال. يوفّر الذكاء الاصطناعي قدرات غير مسبوقة لمعالجة البيانات وتحليل سلوك المتعلمين بصورة آنية، مما يمكّن من تفصيل التجربة التعليمية حسب احتياجات كل متعلم (علي وآخرون، 2024). ويؤكد السيد (2024) أن الذكاء الاصطناعي بات يمثل نقطة تحول رئيسية في مستقبل المؤسسات التعليمية، فهو لم يعد مقتصراً على أتمتة المهام الروتينية، بل أصبح وسيلة للتغلب على تحديات معقدة مثل تفاوت المستويات بين الطلبة وسد الفجوات التعليمية.
ومن منظور عالمي، تذكر مراجعات حديثة أن السنوات الأخيرة شهدت اتجاها متزايداً نحو توظيف الذكاء الاصطناعي في تصميم التعلم عبر مختلف المراحل. فقد خلصت مراجعة منهجية شملت 45 دراسة إلى أن الذكاء الاصطناعي بات يندمج في جميع مراحل التصميم التعليمي (التحليل، التصميم، التطوير، التنفيذ، والتقييم) مع تركيز خاص على مرحلتي التصميم والتقييم(Baig & Yadegaridehkordi, 2024; Walter, 2024). هذه المراجعات تؤكد أن دور المصممين التعليميين آخذ في التطور بحيث يتعاونون مع أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحقيق نتائج أفضل، عوض القلق من منافستها لهم كما ورد في (Ch’ng, 2023; Walter, 2024). في الأقسام التالية، سنفصّل أبرز طرق استخدام الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي مدعمة بالأمثلة العملية والبحوث العلمية.
طرق استخدام الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي
لقد تعددت أساليب توظيف الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي، ونستعرض هنا أهم الطرق المدعومة بالأدلة والتي تُحدث فرقاً ملموساً في جودة التعليم:
- تخصيص التجارب التعليمية وفق احتياجات المتعلم: من أبرز إسهامات الذكاء الاصطناعي قدرته على تخصيص المحتوى ووتيرة التعلم بما يناسب قدرات كل طالب على حدة. تقوم خوارزميات التعلم الآلي بتحليل أداء المتعلمين بشكل مستمر واقتراح مسارات تعليمية بديلة أو مواد إضافية تلائم نقاط القوة والضعف لدى كل متعلم (الحبيب ومدكور، 2024). على سبيل المثال، يمكن لنظام ذكاء اصطناعي في منصة تعليمية أن يوصي الطالب بتمارين إضافية في المهارات التي يواجه فيها صعوبة، أو أن ينتقل به إلى مواضيع متقدمة إذا كشف النظام أن إجاباته تدل على إتقان المحتوى الحالي. ووجدت دراسات حديثة أن المعلمين يرون في هذه التقنيات حلاً عملياً لتكييف الموارد التعليمية مع احتياجات الطلاب الفردية دون إغفال الفروق بينهم (الحناكي والحارثي، 2023؛ Dempere et al., 2023). وتُظهر نتائج الضلعان (2024) أن امتلاك المعلّم كفايات رقمية مرتبطة بالذكاء الاصطناعي يرتبط عملياً بقدرته على تكييف المسارات التعليمية وتفريد الأنشطة الصفّية، ما يدعم فاعلية التخصيص في البيئات الثانوية. هذا التخصيص لا يزيد من فعالية التعلم فحسب، بل يعزز أيضاً دافعية الطلاب عندما يشعر كل منهم أن التجربة التعليمية مصممة خصيصاً له. ومن الانتباه إلى بعض المحددات المنهجية التي أشار لها الباحثون، كفعالية التخصيص تعتمد على جودة البيانات وتحيّزاتها؛ أي خلل في جمع البيانات أو تمثيل العيّنة قد يقود إلى توصيات غير منصفة (الحبيب ومدكور، 2024). وقد تتراجع الدقّة عند انتقال النظام إلى سياقات ثقافية/لغوية جديدة لم يُدرَّب عليها بشكل كافٍ. وكذلك فإن تفسير مخرجات النماذج يتطلب كفايات رقمية لدى المعلّم لتجنّب قراءات سطحية (الضلعان، 2024). أما قياس الأثر فيحتاج تصميمات شبه تجريبية/تجريبية تتبع تعلّماً طولياً لاختبار الاستدامة (Baig & Yadegaridehkordi, 2024).
- تحسين إنشاء المحتوى التعليمي بمساعدة الذكاء الاصطناعي: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً متنامياً في تأليف المحتوى التعليمي وتطوير المواد التعليمية بشكل أسرع وأكثر كفاءة. تقدم النماذج اللغوية الحديثة مثل (ChatGPT) إمكانيات لصياغة الشروحات وكتابة الأمثلة وإنتاج الأسئلة التدريبية بشكل آلي وسريع. على سبيل المثال، يمكن لمصمم تعليمي أن يستخدم نموذجاً ذكاءً اصطناعياً لتوليد بنك أسئلة متنوع يصاحب منهجاً معيناً، أو إنشاء سيناريوهات تفاعلية لحل المشكلات. وأظهرت مراجعات أدبية أن أدوات مثل ChatGPT توفر دعماً كبيراً في مرحلة تطوير المحتوى سواء في صياغة المسائل أو تبسيط النصوص المعقدة للمتعلمين (Sok & Heng, 2024 Adiguzel, Kaya & Cansu, 2023;). إضافة إلى ذلك، ظهرت أدوات ذكاء اصطناعي توليدي أخرى غير نصية مفيدة للتصميم؛ فمثلاً مولدات الصور بالذكاء الاصطناعي مثل DALL-E تتيح إنتاج صور ورسومات توضيحية مخصصة للمادة التعليمية خلال ثوانٍ، مما يوفر الوقت والجهد في البحث عن وسائط بصرية ملائمة. كذلك برمجيات مثل Canva باتت تعتمد على خوارزميات مساعدة في التصميم لتقترح تنسيقات جذابة تلقائياً، مما يدعم المصمم غير المتخصص فنّياً في إعداد مواد ذات جاذبية بصرية عالية. ونتيجة لذلك، توسع الذكاء الاصطناعي في دور "المساعد الرقمي" للمصمم التعليمي الذي يتولى المهام الميكانيكية (كالترجمة والتلخيص وتنسيق الشرائح) فيتحرر المصمم للتركيز على الجوانب الإبداعية والفكرية (Kasneci et al., 2023). ومن المهم ملاحظة بعض المحددات المنهجية لم سبق؛ فالمخرجات النصية قد تتضمن تبسيطاً مفرطاً أو «ثقة زائفة» وتتطلب مراجعة خبراء موضوعيين (Kasneci et al., 2023). وتوليد الصور/الفيديو قد يواجه حدود الدقة الدلالية والسياقية، خصوصاً في مفاهيم متخصّصة. وكذلك فإن الاعتماد الزائد على الأتمتة قد يقلّل التنوع البيداغوجي إن لم يُضبط بإشراف المصمّم. وفيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية والترخيص للوسائط المولَّدة فما تزال هناك مناطق رمادية في بعض البيئات المؤسسية.
- التقييم التكويني الذكي والتغذية الراجعة الفورية: يعد التقييم المستمر (التكويني) جزءاً جوهرياً من عملية التصميم التعليمي الفعّال، وقد عزز الذكاء الاصطناعي إمكانات هذا الجانب بشكل ملحوظ. إذ يمكن الآن للأنظمة الذكية توليد اختبارات قصيرة وتفاعلية للمتعلمين أثناء تقدمهم في المادة، وتحليل نتائجها مباشرة لتقديم تغذية راجعة فورية وبناءة. على سبيل المثال، طوّرت منصات تعليمية تستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل إجابات الطالب على الأسئلة المقالية لتحديد نقاط القوة والضعف في فهمه، ثم تقدم له تغذية راجعة تفصيلية تتضمن تفسير الأخطاء واقتراحات للتحسين – وكل ذلك بشكل لحظي دون انتظار المعلم .(Niemi et al., 2023) وتشير أدبيات حديثة إلى أن أنظمة التقييم المدعومة بالذكاء الاصطناعي تبقي جميع الأطراف ذات الصلة في حلقة التغذية الراجعة المستمرة؛ حيث يحصل المعلم والطالب والإدارة وحتى أولياء الأمور (عند الحاجة) على بيانات آنية حول مستوى الطالب وتقدمه كما ورد في (الحناكي والحارثي، 2023؛ Cardona et al., 2023). من جهة أخرى، تساعد هذه الأنظمة في تخفيف عبء التقييم عن المعلم عبر أتمتة تصحيح الاختبارات الموضوعية وتحليل نتائجها .(Sullivan et al., 2023) بل إن بعض خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية باتت قادرة على تقييم الإجابات المفتوحة إلى حد مقبول، مما يوفر وقت الأساتذة ليركزوا على تحليل أخطاء التفكير العليا لدى الطلبة بدلاً من الانشغال بتصحيح كل تفصيلة (الحبيب ومدكور، 2024). حصيلة ذلك هي نظام تقييم أكثر مرونة واستمرارية يوجه العملية التعليمية في الوقت الفعلي بدلاً من الاقتصار على الامتحانات النهائية كأداة وحيدة للتقويم. وتتطلب أتمتة التغذية الراجعة الفورية توافر كفايات رقمية لدى المعلّمين لفهم مخرجات الأنظمة وتفسيرها تربوياً، وهو ما تؤكده دلائل ميدانية في التعليم الثانوي السعودي (الضلعان، 2024). مع عدم إغفال المحددات المنهجية كدقّة تقييم الإجابات المفتوحة متفاوتة بحسب التخصّص ونوع المهمة، ولا تُغني عن تحكيم بشري .(Sullivan et al., 2023)وخطر «الانقياد للقياس» إذا تمحورت التعليمات حول ما يسهل للنظام قياسه فقط. وكذلك صلاحية وموثوقية البنود المولَّدة آلياً تحتاج إلى معايرة وإحصاءات صِدق/ثبات قبل التعميم. بالإضافة إلى فجوة الكفايات الرقمية التي قد تحدّ من قدرة المعلمين على تفسير البيانات واتخاذ قرارات تربوية سليمة (الضلعان، 2024).
- بيئات تعلم محاكاة مدعومة بالذكاء الاصطناعي: فتح الذكاء الاصطناعي الباب لابتكار بيئات تعليمية غامرة تستخدم تقنيات المحاكاة والواقع الافتراضي بشكل غير مسبوق. فباستخدام الذكاء الاصطناعي، أصبح من الممكن بناء مختبرات افتراضية وألعاب محاكاة تتفاعل مع أفعال المتعلم بذكاء، مما يخلق تجربة شبيهة بالواقع يتعلم من خلالها الطالب عن طريق الممارسة الخطية والاستكشاف الحر. على سبيل المثال، في المجال الطبي، توجد محاكيات إجراءات جراحية تعتمد على ذكاء اصطناعي قادر على تقييم أداء الطالب الجراح أثناء المحاكاة وتزويده بإرشادات فورية إذا أخطأ .(Dai & Ke, 2022) وفي التعليم العام، برزت ألعاب تعليمية ذكية تمزج التحدي بالمتعة، يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي لتكييف درجة صعوبة اللعبة باستمرار مع مستوى أداء الطفل، محافظةً بذلك على منطقة تحدي مناسبة تحفّزه على التعلم دون إحباط (الحناكي والحارثي، 2023). كذلك ظهر ما يسمى بالوكلاء الافتراضيين (Virtual Agents) المدعومين بالذكاء الاصطناعي والذين يقومون بأدوار شبه بشرية في بيئات المحاكاة التعليمية. فتجد وكيلاً افتراضياً يقوم بدور المريض الذي يتحاور مع طالب كلية الطب، أو وكيلاً آخر يلعب دور مرشد سياحي افتراضي في درس للغة الأجنبية، حيث يمكن للمتعلم التحدث معه والحصول على تفاعل واقعي .وبيّن استعراض منهجي حديث لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعلم القائم على المحاكاة أن لهذه التقنيات تطبيقات متنوعة تشمل أنظمة التدريس الذكية والواقع الافتراضي وألعاب المحاكاة والترفيه التعليمي، وهي توفر للطلاب بيئة آمنة للتجربة والخطأ وتطوير المهارات العملية .(Dai & Ke, 2022) إن دمج الذكاء الاصطناعي في بيئات المحاكاة بهذا الشكل يرفع من جودة التدريب العملي ويضمن انتقالاً أكثر سلاسة للممارسة الواقعية، لأنه يسمح للطالب بتجربة سيناريوهات معقدة وغير متكررة يصعب توفيرها في الصفوف التقليدية. ومن المهم رغم كل ما سبق الانتباه إلى أن النقل من «المحاكاة» إلى الأداء الواقعي ليس مضموناً دوماً، ويحتاج أدلة أثر على التعلّم العميق ومهارات الممارسة (Dai & Ke, 2022). وأن الكلفة والبنية التحتية قد تحدّ من التوسّع والعدالة في الإتاحة. وكذلك فبعض إخراجات الوكلاء الافتراضيين قد تعكس تحيزات تدريبية وتستلزم مراجعة تربوية. هذا عدا عن أن تصميم السيناريوهات يتطلب خبرة بيداغوجية؛ فالإفراط في «الإبهار التقني» قد يضعف الملاءمة التعليمية.
- تحوّل دور المصمم التعليمي في عصر الذكاء الاصطناعي: مع تزايد حضور الذكاء الاصطناعي في أدوات التصميم التعليمي، ثار جدل حول مستقبل وظيفة المصمم التعليمي البشرية. هل سيُستغنى عن المصممين لصالح الأنظمة الذكية؟ تشير التوقعات الحديثة إلى أن الدور لن يختفي، بل سيتحول ويُعاد تشكيله بطريقة إيجابية. يجمع الخبراء على أن الذكاء الاصطناعي سيقوم بأتمتة الكثير من المهام الروتينية (كجمع المحتوى وترتيبه وإعداد الاختبارات الأولية)، مما يفسح المجال للمصمم التعليمي ليركز أكثر على الإبداع والتفكير الاستراتيجي (الحناكي والحارثي، 2023؛ Ch’ng, 2023). ففي المستقبل القريب، سيغدو المصمم التعليمي بمثابة مستشار ومشرف على العملية التصميمية يقوم بضبط مخرجات الذكاء الاصطناعي وتوجيهها لتتواءم مع الأهداف التربوية والقيم الإنسانية. على سبيل المثال، قد يقوم المصمم بمراجعة المحتوى الذي تولده أنظمة الذكاء الاصطناعي للتأكد من دقته وخلوّه من التحيزات، وإجراء التعديلات الإبداعية التي تتطلب فهماً عميقاً لسياق التعلم وثقافة المتعلمين. وبهذا المعنى، يتحول دور المصمم إلى دور تقييمي إشرافي أكثر منه تنفيذي في بعض الجوانب. وقد أكد هودجز وكيرشنر (Hodges & Kirschner, 2024) في افتتاحية لهم أن على المصممين تبنّي الذكاء الاصطناعي كأداة تعزيز لقدراتهم، وليس كتهديد لوظائفهم، داعين إلى تطوير كفاءات جديدة للمصممين تشمل فهم خوارزميات الذكاء الاصطناعي ومهارات الهندسة التوجيهية لطرح الأسئلة المناسبة على الأنظمة الذكية (Walter, 2024). هذا التطور يتطلب أيضاً تضمين برامج إعداد المعلمين والمصممين بمكونات تدريبية حول محو الأمية بالذكاء الاصطناعي (AI literacy)، بحيث يكون خريجو هذه البرامج قادرين على العمل جنباً إلى جنب مع الأنظمة الذكية بفاعلية (الحربي والعمري، 2025). ويجب الوعي بأن التحوّل للمصمم «من تنفيذي إلى إشرافي» يظل افتراضاً مرجَّحاً لا حتمياً ويتأثر بثقافة المؤسسة وسياساتها (Walter, 2024). وتبقى فجوة المهارات (AI literacy + هندسة التوجيه) تُبطئ التحوّل وتؤدي إلى استخدام سطحي للأدوات. إلى جانب أن مقاييس إنتاجية المصمّم تحت تأثير الذكاء الاصطناعي تحتاج تعريفات دقيقة لتجنّب تقليل الجودة لمصلحة السرعة. وتبقى الحوكمة والأخلاقيات (الخصوصية/التحيز/الشفافية) شروط لازمة لاستدامة الدور الجديد.
تجربة تطبيقية: مشروع طلاب الدراسات العليا في تصميم تعلم إلكتروني
على أرض الواقع، قدم استخدام الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي نتائج مبهرة تجلت في تجارب تعليمية حديثة. من تلك التجارب تجربة أجريت مع طلبة الدراسات العليا في مقرر "تصميم التعلم الإلكتروني"، حيث طُلب من الفرق الطلابية ابتكار منصة تعليمية إلكترونية متكاملة تساعد طلبة البكالوريوس في تعلّم بعض المهارات الأساسية (مثل أساسيات استخدام الحاسوب وبرامج العرض التقديمي كـPowerPoint). كانت المهمة معقّدة وتتطلب تصميم المحتوى التعليمي وإنتاج المواد التفاعلية وإضافة عناصر تقييمية وضمان جاذبية المنصة للمتعلمين. ولإنجاز ذلك خلال فصل دراسي واحد، قرر الطلاب توظيف مجموعة من أدوات التكنولوجيا الحديثة، كان في مقدمتها أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
استخدام الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي في المشروع
قام الطلاب بالاستفادة من أدوات متنوعة، من أبرزها:
- منصة Canva للتصميم: استُخدمت Canva في تصميم واجهات المنصة والعناصر المرئية. ورغم أنها ليست أداة ذكاء اصطناعي بالمعنى التقني العميق، إلا أنها مدعومة بخواص ذكية لتنسيق التصاميم واقتراح قوالب جاهزة تناسب المحتوى. تمكن الطلاب بفضلها من إعداد مواد رسومية احترافية (شعارات، إنفوجرافيك، شرائح عرض) خلال وقت قصير، مما عزز المظهر الجذاب للمنصة التعليمية دون الحاجة لخبرة متقدمة في التصميم الجرافيكي.
- نموذج :ChatGPT كان له الدور بارز في توليد المحتوى النصي للمقررات القصيرة ضمن المنصة. استعان به الطلاب لصياغة شروحات مبسطة لبعض المفاهيم التقنية، واقتراح أمثلة إضافية لتوضيح النقاط الصعبة، بل وحتى ابتكار سيناريوهات أسئلة تفاعلية يمكن طرحها على المتعلمين. على سبيل المثال، أحد الفرق أدخلوا إلى ChatGPT فكرة درس حول "أساسيات التعامل مع جداول البيانات" وطلبوا منه اقتراح عشر أسئلة اختيار من متعدد مع الإجابات. النتيجة كانت بنك أسئلة أولي استخدمه الفريق لصقل أسئلتهم النهائية. يؤكد سوك وهينج (Sok & Heng, 2024) فاعلية مثل هذا الاستخدام، حيث وجدوا أن ChatGPT يمكن أن يوفر دعماً في تصميم التقييمات وصياغة الأسئلة، مما يخفف العبء عن المصمم التعليمي ويوفر وقتاً يمكن توجيهه لتحسين جودة المحتوى .كما استفاد الطلاب من ChatGPT في تدقيق نصوصهم لغوياً وتحريرياً للتأكد من خلو المادة التعليمية من الأخطاء قبل نشرها.
- مولد الصور :DALL-E لجأ بعض الطلاب إلى استخدام منصة DALL-E التوليدية للحصول على صور توضيحية فريدة للمحتوى. فبدلاً من استخدام صور جاهزة متكررة من الإنترنت، قاموا بإدخال أوامر نصية للمولد لوصف الصورة المطلوبة (مثال: "صورة لطالب يجلس أمام الكمبيوتر مبتسماً في فصل دراسي افتراضي") فحصلوا على صور مخصصة عالية الجودة أضفت طابعاً أصيلاً على المادة التعليمية. هذه إحدى الميزات النادرة للذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث يمكّن حتى غير المتخصص من إنتاج رسومات وإيضاحات ملائمة لأي موضوع تعليمي تقريباً في دقائق معدودة، الأمر الذي كان شبه مستحيل قبل سنوات قليلة.
- منصة الفيديو :Synthesia وهي أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي تتيح إنشاء مقاطع فيديو تعليمية بشخصيات رقمية تحاكي البشر (روبوتات محادثة مرئية). استخدمها فريق من الطلاب لإعداد فيديو تعليمي قصير يتحدث فيه مجسم افتراضي لمدرب يرحب بالطلبة المستجدين ويشرح لهم كيفية استخدام المنصة. قام الفريق بكتابة النص المطلوب، ثم اختاروا شخصية رقمية وصوتاً ملائماً، فتم توليد فيديو يبدو فيه المدرب الافتراضي وكأنه يتحدث اللغة العربية بطلاقة. هذه التقنية أضفت طابعاً تفاعلياً وجذاباً على المنصة، وشعر الطلاب المستهدفون وكأن هناك معلماً حقيقياً يوجههم، مما زاد من تفاعلهم مع المحتوى. تشير دراسات ناشئة إلى أن استخدام الشخصيات الافتراضية المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الشرح يمكن أن يعزز انتباه المتعلم ويعمق تفاعله، بشرط تصميمها بعناية(AlAfnan et al., 2023) .
بالإضافة إلى ما سبق، استخدمت فرق الطلاب أدوات أخرى مثل برامج تصميم الخرائط الذهنية التفاعلية لإنشاء مخططات مفاهيمية online ، وتطبيقات الاختبارات القصيرة (Quiz) المدمجة في مقاطع الفيديو (حيث يتوقف الفيديو تلقائياً لطرح سؤال قصير على المتعلم للتحقق من فهمه قبل المتابعة)، وكذلك أدوات تأليف الكتب الإلكترونية التفاعلية (مثل Flip PDF لإنشاء كتاب رقمي بتأثير التقليب). قد لا تعتمد كل هذه الأدوات على تقنيات ذكاء اصطناعي معقدة، لكنها جميعاً استفادت من إمكانات الأتمتة والتفاعلية التي وفرتها البرمجيات الحديثة، وكان الذكاء الاصطناعي حاضراً بصورة مباشرة أو غير مباشرة في العديد منها.
نتائج التجربة وتعلم الدروس
أسفرت هذه التجربة التعليمية عن منصة تعلم إلكتروني متكاملة تم عرضها في نهاية الفصل أمام لجنة تقييم. كانت ردود فعل الحضور إيجابية للغاية، وأثنى أعضاء هيئة التدريس على الإبداع في توظيف الأدوات التقنية لخدمة الأهداف التعليمية. أبرز النتائج والملاحظات من هذه التجربة:
- تمكن الطلبة (وهم مصممو تعلم مبتدئون) من إنجاز مشروع معقد في زمن محدود نسبياً، ويُعزى ذلك إلى أتمتة العديد من المهام عبر أدوات الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، عملية إعداد بنك أسئلة وتدقيق المحتوى التي قد تستغرق أسابيع لو تمت يدوياً، أُنجزت في أيام معدودة بمساعدة ChatGPT وأدوات التدقيق الآلي.
- أظهر المشروع تنوعاً في أساليب العرض والتقييم بفضل دمج الفيديوهات التفاعلية والاختبارات والألعاب البسيطة، مما عزز مبدأ تفريد التعليم. وقد لاحظ الطلبة (مصممو المحتوى) أن استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد هذه الأنشطة التفاعلية لم يقلل من أصالة عملهم، بل على العكس حرر وقتهم للتفكير في تحسين تصميم التعلّم. وهذا يتفق مع ما ذكره كاسنيجي وآخرون (Kasneci et al., 2023) من أن الشراكة بين المصمم والذكاء الاصطناعي تعزز الابتكار عوضاً عن أن تعيقه.
- واجه الطلاب بعض التحديات التقنية، مثل حاجة أدوات الذكاء الاصطناعي اللغوية إلى صياغة مدخلات دقيقة (prompt engineering) للحصول على نتائج مرضية. تعلّموا من خلال المحاولة والخطأ كيفية كتابة تعليمات فعّالة للنموذج اللغوي لجعله يقدم المعلومات المطلوبة بالمستوى المرجو من التفصيل والدقة. هذه المهارة - التي يمكن أن نسميها هندسة التوجيه، وقد باتت مهمة جداً اليوم للمصممين التعليميين، وقد أكدت ذلك بحوث تربوية حديثة داعيةً إلى تدريب التربويين على مهارة التعامل الفعّال مع نماذج الذكاء الاصطناعي الحوارية (Walter, 2024).
- من ناحية المحتوى العلمي، حرص المشرفون على المشروع على مراجعة كل المخرجات التي قدمها الذكاء الاصطناعي للتأكد من دقتها وعدم انحيازها. وفعلاً تبيّن أن بعض الإجابات التي قدمها ChatGPT احتاجت لتعديل وتصحيح طفيف، مما يبرز دور المصمم/الخبير البشري في التحقق من موثوقية المعلومات. هذه النقطة شددت عليها أيضاً الأدبيات: إذ رغم قوة أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإنها قد تنتج أحياناً معلومات خاطئة أو مزيفة بثقة (Hallucinations)، لذا يبقى الإشراف البشري ضرورة لضبط الجودة (Sullivan et al., 2023).
باختصار، أثبتت هذه التجربة الميدانية أن الدمج الذكي لأدوات الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي يمكن أن يرتقي بجودة نواتج التعلم، ويختصر الوقت والجهد، شريطة أن يتم ذلك بوعي من المصمم لدوره المتغير ولحدود التقنيات المتاحة. إنها شراكة يظهر فيها جلياً كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعداً موثوقاً للمصمم التعليمي وليس بديلاً عنه.
فوائد الذكاء الاصطناعي في إعداد رسائل الماجستير والدراسات العليا
لا يقتصر أثر الذكاء الاصطناعي على تصميم المناهج والمقررات فحسب، بل يمتد أيضاً إلى تحسين جودة البحوث العلمية ورسائل الدراسات العليا من ماجستير ودكتوراه. إذ تستهلك مراحل إعداد الأطروحة – من جمع الدراسات السابقة وكتابة الإطار النظري إلى تحليل البيانات وكتابة النتائج – الكثير من الوقت والجهد من الطالب والمشرف. وهنا ظهرت خلال السنوات الأخيرة جملة من الأدوات الذكية التي يمكن أن تدعم الطالب الباحث في كل مرحلة تقريباً من هذه المراحل. فيما يلي نستعرض أهم الفوائد التي يقدمها الذكاء الاصطناعي لطلبة الدراسات العليا في إعداد رسائلهم:
- البحث في الأدبيات وتجميع المصادر العلمية: أصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة على البحث الذكي في قواعد البيانات الضخمة واستخلاص قائمة بالدراسات الأكثر صلة بموضوع معين خلال ثوانٍ. على سبيل المثال، بعض أدوات البحث الأكاديمي المدعومة بالذكاء الاصطناعي (كأداة Semantic Scholar المطورة حديثاً) تستخدم تقنيات معالجة اللغة الطبيعية لفهم ملخص بحثك ثم تقترح عليك أبحاثاً أخرى مرتبطة بدرجة عالية بموضوعك. مثل هذه الأدوات تساعد الطالب على عدم تفويت دراسات مهمة في مجاله، وترتيب كمّ كبير من المراجع بصورة منطقية. كما ظهرت أدوات مثل Elicit وغيرها يمكنها إعطاء لمحة سريعة عن النتائج الرئيسية لورقة علمية أو تحديد أين ذُكر متغير معين عبر مجموعة من الأوراق، مما يسهل عملية مراجعة الأدبيات بشكل غير مسبوق. وبالطبع، يجب على الباحث التأكد يدوياً من كل مصدر والتعمق فيه، لكن هذه التقنيات تختصر مرحلة جمع البيانات الثانوية بشكل هائل. ويجدر الإشارة هنا رقم هذه الفوائد إلى أن خوارزميات الاقتراح قد تولّد «فقاعة ترشيحات» وتفوت دراسات هامشية لكنها مهمة؛ يلزم تدقيق بشري منهجي. وأن تغطية القواعد ليست متساوية عبر التخصّصات واللغات؛ قد يحدث تحيّز نحو الإنجليزية. وكذلك توصيف العلاقات بين الدراسات (خرائط/مُلخّصات) لا يغني عن قراءة نقدية معمّقة للمتون.
- الدعم في الكتابة الأكاديمية والتحرير اللغوي: يواجه العديد من طلبة الدراسات العليا – لاسيما في المراحل الأولى من مشوارهم البحثي – صعوبة في صياغة النصوص الأكاديمية بلغة سليمة وواضحة. هنا برز دور نماذج معالجة اللغة مثل (GPT-4) التي يمكنها أن تكون بمثابة "مدقق لغوي ومدرب كتابة" في نفس الوقت. يمكن للطالب مثلاً أن يطلب من النموذج مراجعة فقرة من فصل الدراسة النظري بحثاً عن أي أخطاء لغوية أو غموض في التعبير، وسيقترح النموذج صياغات بديلة أكثر إحكاماً .(Sok & Heng, 2024) بعض الباحثين استخدموا هذه النماذج أيضاً في تلخيص نتائج الدراسات السابقة لاستخلاص فجوة البحث بشكل أكثر وضوحاً – فبدلاً من قراءة 100 ورقة بحثية بكاملها، يمكن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لتقديم ملخصات مختصرة لأبرز ما توصلت إليه كل دراسة .(Baig & Yadegaridehkordi, 2024) هذا لا يعني الاستغناء عن قراءة الأوراق الأصلية بتمعن، لكنه يساعد في تكوين صورة عامة سريعة وترتيب الأفكار قبل الغوص بالتفاصيل. كذلك توفر أدوات مثل Grammarly المدعمة بالذكاء الاصطناعي تدقيقاً نحوياً وإملائياً دقيقاً للنص الإنجليزي، واقتراح مفردات أكثر ملاءمة للسياق الأكاديمي، مما يرفع جودة الأسلوب الكتابي للرسالة بشكل واضح. وكذلك، تُظهر الشواهد الميدانية أنّ برامج التطوير المهني التي ترفع كفايات الذكاء الاصطناعي لدى المعلّمين تُحسّن جودة توظيف الأدوات الذكية في مهام البحث والإشراف الأكاديمي (الضلعان، 2024). ومن جانب آخر لا بد من التنبيه أن أدوات الصياغة قد تنتج «لغة مصقولة» لكن فقيرة الدليل؛ فيلزم مواءمة ذلك مع صوت الباحث. وخطر إدخال تغييرات تضعف الدقة الاصطلاحية الحقلية إن لم يراجعها المتخصص. بالإضافة للسياسات المؤسسية التي قد تقيّد مستوى الاعتماد على هذه الأدوات وتتطلب إفصاحاً صريحاً.
- التحليل الإحصائي واستنباط الأنماط: في حال كانت الدراسة الميدانية للطالب تتضمن بيانات رقمية (كمية أو نوعية كبيرة)، فهناك برامج ذكاء اصطناعي يمكن أن تدعم عملية التحليل. على سبيل المثال، في التحليل الكمي باتت بعض حزم البرمجيات الإحصائية ) مثل SPSS وStata ) تدمج خوارزميات ذكاء اصطناعي للمساعدة في اختيار الاختبار الإحصائي الأنسب بحسب طبيعة البيانات، أو حتى أتمتة بناء نماذج التنبؤ بالاعتماد على التعلم الآلي. وفي التحليل النوعي، ظهرت أدوات مثل NVivo مطورة بقدرات ذكاء اصطناعي لأتمتة عملية ترميز المقابلات والنصوص واستخراج الموضوعات الرئيسية منها. هذا يسهل على الباحث التعامل مع مئات الصفحات من النصوص، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي باقتراح كلمات مفتاحية وتصنيفات قد تغيب عن بال الباحث أحياناً. من خلال هذه التقنيات، يستطيع الطالب التركيز على تفسير النتائج ومعانيها بدل إضاعة جهد هائل في العمليات التقنية للفرز والعدّ. وهنا من المهم أن نذكر بعض حدود التطبيق فأن التوصية الآلية بالاختبارات على سبيل المثال قد تتجاهل افتراضات إحصائية وسياقية؛ فالقرار النهائي بحثيّ لا آليّ. وأن الترميز نوعي المدعوم بالذكاء الاصطناعي قد يلتقط أنماطاً سطحية ويُهمل المعنى السياقي الدقيق؛ فيلزم تحكيم متعدد. بالإضافة إلى أن قابلية التكرار والشفافية (reproducibility) تتطلب توثيق الإعدادات والخوارزميات المستخدمة.
- ضمان أصالة العمل وكشف السرقة الأدبية: وفرت تقنيات الذكاء الاصطناعي أيضاً حلولاً لحماية النزاهة الأكاديمية، إذ أصبحت هناك خوارزميات متقدمة لكشف الاقتباس غير المشروع أو النسخ عن الآخرين. على سبيل المثال، تستخدم برامج كشف الانتحال (Plagiarism Detection) الحديثة تقنيات مطابقة ذكية تتجاوز مجرد مقارنة النص حرفياً لتصل إلى التعرف الدلالي على التشابه في الأفكار والصياغة. لذا يمكن للباحث أن يتحقق من مسودة رسالته عبر هذه البرامج للتأكد من أصالة عمله قبل التقديم. وبالعكس، يمكن استخدام أدوات ذكاء اصطناعي توليدية لمساعدة الباحث في إعادة صياغة الجُمل المقتبسة بشكل سليم يحافظ على المعنى دون الإخلال بحقوق الملكية الفكرية. هذه العملية مهمة لضمان أن الرسالة النهائية خالية من أية شبهات انتحال ومتوافقة مع أخلاقيات البحث العلمي (Sullivan et al., 2023).
بالطبع، الدعم الذي تقدمه أدوات الذكاء الاصطناعي لطلبة الدراسات العليا ينبغي استخدامه بحكمة وتحت إشراف المشرف الأكاديمي. فهي أدوات مساعدة لا تحل محل فهم الباحث لبحثه ولا اجتهاده في التفكير النقدي وتفسير النتائج. كما أن بعض الجامعات بدأت بوضع سياسات واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الأكاديمي تضمن عدم الإفراط الذي قد يخل بملكية أفكار الباحث أو يعرضه للاعتماد الزائد على الآلة (الحربي والعمري، 2025). لكن في المجمل، اتفق الباحثون على أن الاستخدام المسؤول لهذه الأدوات يمكن أن يحسّن بشكل ملحوظ من جودة الرسائل العلمية عبر تقليل الأخطاء وزيادة الدقة العلمية واللغوية .(Kasneci et al., 2023; Sok & Heng, 2024) وقد أظهرت دراسة استقصائية على طلبة ماجستير في السعودية أن مستوى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لديهم كان مرتفعاً في عدة جوانب من دراستهم، رغم وجود بعض المعوقات التقنية والإدارية (الحبيب ومدكور، 2024). هذا يدل على تعطش الطلبة لهذه الأدوات، ودورها المتنامي في تشكيل مستقبل البحث العلمي.
التحديات والاعتبارات الأخلاقية عند استخدام الذكاء الاصطناعي
على الرغم من الصورة الوردية التي قد يبدو عليها إدماج الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي والتعليم عموماً، إلا أنه يواجه عدداً من التحديات والمحاذير التي ينبغي التفكّر بها ومعالجتها لضمان استخدام فعّال وآمن لهذه التقنيات. من أبرز تلك التحديات:
- مصداقية المعلومات وتحجيم الأخطاء: كما أشرنا، قد يقدم الذكاء الاصطناعي أحياناً معلومات غير صحيحة أو مشوشة إذا لم يتم توجيهه بدقة. لذا من الضروري إبقاء العنصر البشري في الحلقة لمراجعة المخرجات والتحقق من صحتها. فعلى سبيل المثال، نماذج مثل ChatGPT ليس لديها "وعي حقيقي" وإنما تتنبأ بالكلمات بناءً على أنماط تدريبها، مما قد يؤدي بها إلى اختلاق مرجع أو إعطاء إجابة واثقة لكنها خاطئة في بعض الأحيان (Sok & Heng, 2024). الحل يكمن في تعزيز ثقافة التحقق لدى كل من المعلم والمتعلم عند استخدام هذه الأدوات وعدم الاعتماد عليها كلياً دون فحص.
- الاعتبارات الأخلاقية والخصوصية: يتطلب استخدام منصات الذكاء الاصطناعي جمع كم كبير من بيانات المستخدمين وأدائهم، مما يثير تساؤلات حول خصوصية الطلاب وأمن بياناتهم. يجب على المؤسسات التعليمية والمصممين التأكد من أن البيانات التي تجمعها أنظمة الذكاء الاصطناعي – مثل نتائج الاختبارات أو تفضيلات التعلم – محمية ومشفرة وتستخدم فقط لغرض تحسين التعليم وليس لأي أغراض تجارية أو غير أخلاقية. كما ينبغي مراعاة عدم إدخال معلومات شخصية حساسة إلى الأنظمة السحابية للذكاء الاصطناعي إلا وفق سياسات واضحة ورضى المستخدم. وقد بدأت بعض وزارات التعليم وهيئات الاعتماد بوضع سياسات حوكمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي تضمن الشفافية في كيفية عمل هذه الأنظمة وتوصياتها (الحربي والعمري، 2025).
- تكافؤ الفرص والوصول: إذا لم يتم التخطيط جيداً، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يزيد الفجوة الرقمية والتعليمية بدلاً من ردمها. إذ تتطلب معظم حلول الذكاء الاصطناعي بنية تحتية تقنية متقدمة واتصالاً سريعاً بالإنترنت وأجهزة حديثة – وهي أمور قد لا تتوفر لجميع الطلبة بالتساوي خاصة في المناطق الأقل حظاً. لذا على المصممين وصناع القرار الحرص على توفر بدائل أو خطط دعم تمكن كل الطلاب من الاستفادة من هذه التقنيات دون تمييز. كما يجب تدريب المعلمين أنفسهم بشكل كافٍ حتى لا يصبح فقط الطلبة المتفوقون تقنياً هم من يستفيدون، بينما يبقى بقية المعلمين والطلبة على الهامش (الحناكي والحارثي، 2023).
- الحاجة لصقل المهارات البشرية: دخول الذكاء الاصطناعي للمشهد التعليمي يفرض مهارات جديدة يجب توافرها في المعلم والمصمم والمتعلم على حد سواء. على سبيل المثال، ينبغي للمصمم التعليمي إتقان مهارة تحليل البيانات التي تقدمها أنظمة الذكاء الاصطناعي عن أداء المتعلمين واستثمارها في تحسين التصميم. ويحتاج المعلم إلى تعلم كيفية طرح الأسئلة الصحيحة على النظام الذكي للحصول على الدعم المناسب في إعداد الدروس أو توفير التغذية الراجعة. أما الطالب، فينبغي تزويده بمهارات التفكير النقدي ليتمكن من تقييم ما يقدمه له الذكاء الاصطناعي وألا يتلقاه بشكل أعمى .(Walter, 2024) ولا يكفي تزويد المدارس بالأدوات؛ فالفجوة الحقيقية تكمن في كفايات الذكاء الاصطناعي لدى المعلّمين، إذ يبيّن الضلعان (2024) أن امتلاك هذه الكفايات يمثّل شرطاً مُيسِّراً لتبنّي الحلول الذكية وتطويعها في الممارسة اليومية. هذه كلها مهارات يمكن تنميتها بالتدريب والممارسة، وتندرج ضمن مفهوم أشمل هو محو الأمية بالذكاء الاصطناعي (AI Literacy) الذي بدأت أصوات عديدة تنادي بإدراجه ضمن مناهج إعداد المعلمين وفي المناهج الدراسية للطلاب أنفسهم.
وهكذا يتضح لنا مما سبق أن التحديات لا ينبغي أن تثنينا عن تبني الذكاء الاصطناعي في التعليم، بل يجب أن تدفعنا لوضع أطر وضوابط وضمانات تجعل استخدامه آمناً ومثمراً. وكما تقول إحدى الدراسات: الذكاء الاصطناعي في التعليم يقدم فوائد جمة لكنه ليس عصا سحرية؛ تحقيق أقصى استفادة منه يتطلب وعياً وتخطيطاً وجهداً مشتركاً من البشر والآلات معاً (Sullivan et al., 2023).
خاتمة
في ضوء ما تقدم، يتضح أن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة في ميدان التصميم التعليمي ترسم ملامح جديدة لمستقبل التعلم. فقد رأينا كيف يمكن للأدوات الذكية أن تجعل التعلم أكثر تخصيصاً وفعالية، وكيف تختصر على المصممين والمعلمين الكثير من الوقت في إنشاء المحتوى وتقييمه، مما يتيح لهم التركيز على الجوانب الإبداعية والإنسانية في التعليم. كما استكشفنا عبر تجربة واقعية كيف أن الدمج المدروس بين إبداع العقل البشري وقدرة الذكاء الاصطناعي التقنية يمكن أن يثمر حلولاً تعليمية مبهرة لم تكن لتتحقق بنفس السرعة والجودة من دون هذه الشراكة.
إن أهمية الذكاء الاصطناعي في التصميم التعليمي اليوم لا تقاس فقط بما يقدمه من تسهيلات، بل فيما يفتح أمامنا من آفاق تربوية جديدة. مناهج أكثر تكيفاً، تجارب تعلم تفاعلية وغامرة، تقييمات مستمرة وبناءة، ودعم مخصص للباحثين والطلاب على حد سواء – كلها أصبحت ممكنة بفضل التقنيات الذكية. ومع ذلك، فإن المستقبل الذي يرسمه الذكاء الاصطناعي للتعليم ليس مستقبلاً تستبعد فيه الآلةُ الإنسانَ، بل هو مستقبل التكامل والتعاون: حيث يظل دور المعلم والمصمم محورياً في توجيه دفة العملية التعليمية، مستعيناً بأدوات AI كمُعين ورفيق في الرحلة.
من المهم التأكيد أن نجاحنا في تسخير هذه التقنيات يعتمد على مدى جاهزيتنا كبشر للتعامل معها بوعي وحكمة. فلا بد من إعداد الأجيال القادمة من المعلمين والمصممين بمهارات العصر الرقمي وأخلاقياته، وتطوير السياسات والبنى التحتية التي تضمن إتاحة عادلة وآمنة للتكنولوجيا في مدارسنا وجامعاتنا. بذلك فقط نستطيع الانتقال من مرحلة التجارب الفردية المبشرة إلى مرحلة الاعتماد المنهجي واسع النطاق على حلول الذكاء الاصطناعي في التعليم.
وخلاصة القول: إننا نقف اليوم على أعتاب حقبة جديدة يكون فيها التصميم التعليمي الذكي هو القاعدة لا الاستثناء، وسيكون الذكاء الاصطناعي هو العصا السحرية التي متى ما أحسنّا استخدامها صنعت فارقاً هائلاً في جودة تعلم أبنائنا ومخرجات مؤسساتنا التعليمية. وما بين أيدينا من دراسات وتجارب – عربية وعالمية – إنما هو دليل على أن هذه الثورة التعليمية الذكية قد انطلقت فعلياً ولا رجعة فيها، وأن علينا جميعاً أن نكون جزءاً منها من أجل مستقبل تعلم أكثر إشراقاً وإلهاماً.
المراجع العربية
علي، وليد صلاح الدين الدسوقي، وفارس، نجلاء محمد، والسيد، سحر محمد، وخيري، محمد خيري محمد أحمد. (2024). توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير التصميم التعليمي للمحتوى الرقمي .مجلة جامعة جنوب الوادى الدولية للعلوم التربوية، 7(12)، 758-820. https://doi.org/10.21608/musi.2024.363211
الحربي، حنين علي، والعمري، جميلة محمد. (2025). نحو تصميم تعليمي ذكي: اتجاهات معلمات اللغة الإنجليزية حول الاحتياجات التدريبية لمحو أمية الذكاء الاصطناعي التوليدي في التصميم التعليمي. Journal of Educational and Human Sciences، (43)، 406-434. https://doi.org/10.33193/JEAHS.43.2025.617
السيد، محمد فرج مصطفى. (2024). الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم. مجلة الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات، 2(3)، 17-32. https://doi.org/10.21608/aii s.2024.345840
الحبيب، سديم أحمد، ومدكور، أيمن فوزي. (2024). مستوى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية من وجهة نظر طلبة الماجستير بكلية الشرق العربي للدراسات العليا. المجلة العربية الدولية لتكنولوجيا المعلومات والبيانات، 4(1)، 225-262. https://doi.org/10.21608/aijtid.2023.257191.1074
الحناكي، منى سليمان، والحارثي، محمد عطية. (2023). واقع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم من وجهة نظر معلمات الحاسب وتقنية المعلومات. مجلة مستقبل التربية العربية، 30(139)، 11-52. https://doi.org/10.21608/fae.2023.312689
الضلعان، محمد صلال نايل. (2024). مدى توافر الكفايات الرقمية للذكاء الاصطناعي لدى معلمي المرحلة الثانوية بمنطقة الحدود الشمالية. مجلة كلية التربية – جامعة المنصورة، 126(1)، 661-692. https://doi.org/10.21608/maed.2024.353556
References
Adiguzel, T., Kaya, M. H., & Cansu, F. K. (2023). Revolutionizing education with AI: Exploring the transformative potential of ChatGPT. Contemporary Educational Technology, 15(3), ep429. https://doi.org/10.30935/cedtech/13152
AlAfnan, M. A., Dishari, S., Jovic, M., & Lomidze, K. (2023). ChatGPT as an educational tool: Opportunities, challenges, and recommendations. Journal of Artificial Intelligence and Technology, 3(2), 60-68. https://doi.org/10.37965/jait.2023.0184
Baig, M. I., & Yadegaridehkordi, E. (2024). ChatGPT in higher education: A systematic literature review and research challenges. International Journal of Educational Research, 127, 102411. https://doi.org/10.1016/j.ijer.2024.102411
Dempere, J., Modugu, K., Allam, H., & Ramasamy, L. (2023). The impact of ChatGPT on higher education. Frontiers in Education, 8, Article 1206936. https://doi.org/10.3389/feduc.2023.1206936
Dai, C. P., & Ke, F. (2022). Educational applications of artificial intelligence in simulation-based learning: A systematic mapping review. Computers and Education: Artificial Intelligence, 3, 100087. https://doi.org/10.1016/j.caeai.2022.100087
Kasneci, E., Seßler, K., Küchemann, S., Bannert, M., & others. (2023). ChatGPT for good? On opportunities and challenges of large language models for education. Learning and Individual Differences, 103, 102274. https://doi.org/10.1016/j.lindif.2023.102274
Sok, S., & Heng, K. (2024). Opportunities, challenges, and strategies for using ChatGPT in higher education: A literature review. Journal of Digital Educational Technology, 4(1), ep2401. https://doi.org/10.30935/jdet/14027
Sullivan, M., Kelly, A., & McLaughlan, P. (2023). ChatGPT in higher education: Considerations for academic integrity and student learning. Journal of Applied Learning & Teaching, 6(1), 31-40. https://doi.org/10.37074/jalt.2023.6.1.7
Walter, Y. (2024). Embracing the future of AI in the classroom: The relevance of AI literacy, prompt engineering, and critical thinking in modern education. International Journal of Educational Technology in Higher Education, 21, Article 15. https://doi.org/10.1186/s41239-024-00448-3