"حين يتحدث الطين "... حكاية الفخار الفلسطيني الذي لا ينكسر .
في زوايا القرى الفلسطينية العتيقة، وبين جدران البيوت الطينية والأسواق التي تفوح منها رائحة الأرض، تستمر صناعة الفخار في سرد حكاية متجذّرة في وجدان شعب، حكاية تُروى بلغة الطين والماء والنار. ليست مجرد حرفة، بل مرآة لهويةٍ عريقة، وفنٌ شعبي يحمل في تفاصيله صلابة الفلسطيني وعشقه لأرضه.
إرث حضاري أقدم من التاريخ:
تُعد صناعة الفخار من أقدم ما عرفت فلسطين من صناعات يدوية. فقد عُثر على قطع فخارية أثرية في أريحا وبيسان وسبسطية، تعود لأكثر من أربعة آلاف عام. هذه الشواهد الأثرية التي تعتبر من التراث الفلسطيني تكشف أن الفخار لم يكن مجرد أدوات منزلية، بل جزءًا من الطقوس الدينية والجنائزية، ودليلًا ملموسًا على تواصل الإنسان الفلسطيني مع محيطه وبيئته.
من الطين يولد الجمال:
تمارس الحرفة حتى يومنا هذا في مناطق مثل الخليل وبيت فجار ، حيث تتوفر التربة الطينية الغنية. يُجمع الطين ويُنقى بعناية، ثم يُعجن بالماء ويُشكل على عجلة الفخار بحرفية عالية. بعد التجفيف، تُشوى القطع في أفران تقليدية بدرجات حرارة مرتفعة، فتولد القطعة الفخارية بعد رحلة نار، أكثر صلابة واستدامة.
في زقاق المُخيمات تفوح رائحة الذكريات
بين الحاجة والفن:
الفخار الفلسطيني ليس فقط أداة للاستخدام، بل لوحة فنية تنبض بالحياة. فقد عُرفت الأواني الفخارية بزخارفها البسيطة، ورسوماتها المستوحاة من نباتات فلسطين وطيورها، بألوان ترابية دافئة كالطين الأحمر والأسود والبني. تنوعت أشكاله بين جرار الزيت والماء، أواني الطبخ، الصحون، والأكواب، وحتى التمائم الرمزية والتوابيت الصغيرة.
حرفة تصارع البقاء
رغم عمقها التاريخي وجمالها الفني، تواجه صناعة الفخار في فلسطين تهديدات حقيقية. فقد غزت الأدوات الحديثة المصنوعة من البلاستيك والمعدن الأسواق، وقلّ اهتمام الجيل الجديد بالحرف اليدوية، بينما تعيق الظروف السياسية والاقتصادية انتشار هذا الفن إلى العالمية.
الثوب الفلسطيني اكثر من لباس ... نسيج الارض والهوية
مقاومة صامتة على هيئة طين...
ورغم كل التحديات، تبقى حرفة الفخار صامدة. تعمل مؤسسات ثقافية ومبادرات محلية على إحياء هذا الإرث من خلال تنظيم معارض وورش عمل، وتعليم الفتيان والفتيات أسرار الطين، في محاولة لإعادة وصل الأجيال الجديدة بجذورهم الحضارية.
الفخار الفلسطيني ليس مجرد فن منسي، بل مقاومة صامتة بطين الأرض وصبر الأجداد. إنه صوتٌ ينبعث من أعماق التاريخ ليقول: هنا كنا، وهنا سنبقى، نُشكّل من الطين هوية لا تنكسر، وجمالًا لا يزول.
فن الحَفر على خشب الزيتون في بيت لحم: إبداع ينبض بالأصالة والتاريخ