حين حاول الإنسان أن يطير.. قصة عباس بن فرناس
في صباحٍ أندلسيٍّ غائم، قبل أكثر من ألف عام، ارتقى رجلٌ سبعينيّ الهضبة المطلّة على قرطبة، ووقف ثابتًا كمن يواجه السماء لا ليتأملها، بل ليخترقها. ذلك الرجل لم يكن أميرًا ولا شاعرًا يلقي قصيدته، بل كان العالم المسلم عباس بن فرناس، الذي قرر أن يفعل ما لم يتجرأ عليه أحدٌ من قبله: أن يُحلّق.
لطالما كان الطيران، منذ فجر البشرية، حلمًا جامحًا يسكن في خيال الإنسان. ومن بين آلاف الحالمين، خرج بن فرناس من هذا الحلم إلى الفعل. وُلد في قرطبة عام 810 ميلاديًا، وسط بيئة علمية مزدهرة، حيث كانت الأندلس آنذاك منارات العلم والمعرفة في العالم. تلقى علومه في الفلك والفيزياء، وبرع في الشعر والفلسفة، وكان أول من فكّر في “اختبار قوانين الهواء بجناحين”، لا بالكلمات بل بالتجربة.
تشير المصادر التاريخية، إلى أن أولى محاولاته كانت عام 825م، حين لفّ عباءةً مدعّمة بأخشاب وقفز من أعلى مئذنة الجامع الكبير في قرطبة. لم يكن النجاح حليفه، لكنه خرج من التجربة حيًّا – وهذا بحد ذاته كان انتصارًا لفكرٍ لم يكن في زمنه سوى جنون.
لم يستسلم بن فرناس. بل، وبعد خمسين عامًا من تلك المحاولة، صعد مجددًا إلى الجبل، وقد بلغ من العمر 70 عامًا، حاملاً معه آلة طيران صممها من الحرير وريش النسور، مثبتة على هيكل خشبيّ بديع. حين اندفع نحو السماء، يقول من شهدوا المشهد أنه ظلّ معلقًا في الهواء عشر دقائق كاملة، حلق فيها فوق الأنظار والزمان والمكان. لكنه عند الهبوط، تهاوى وسقط، وكُسرت عظامه، إذ لم يزوّد جهازه بذيلٍ لتحقيق التوازن – تفصيلة أدركها بعد فوات الأوان.
لماذا لم يُنصفه التاريخ؟
تأخر العالم الغربي في الاعتراف بمحاولة بن فرناس، رغم أن كثيرًا من العلماء يعتبرونه بحق “الرائد الأول للطيران العلمي”، متقدمًا على ليوناردو دافنشي بمئات السنين. بل هناك من يعتقد أن الدراسات اللاحقة التي قام بها الأوروبيون، خاصة في عصر النهضة، استفادت – ولو بشكل غير مباشر – من أفكاره.
وقد أشار إليه عدد من المؤرخين المسلمين والأوروبيين، لكن بمرور الزمن، تلاشت سيرته في كتب التاريخ الرسمية، رغم أن العرب أنفسهم خلدوا اسمه، فأطلقوا على مطار بغداد الدولي اسمه، وكذلك فوهة بركانية على سطح القمر بحسب تسمية الاتحاد الفلكي الدولي، اعترافًا بجهوده.
ما الذي تعلمناه من عباس؟
في زمنٍ لم تُعرف فيه قوانين الديناميكا الهوائية، ولم توجد فيه أدوات القياس الدقيقة، تجرأ بن فرناس على تحدي المجهول. لا لأنه أراد المجد، بل لأنه أراد المعرفة. هو لم يُرد أن يكون طائرًا، بل أراد أن يعرف كيف تطير الطيور. ولذلك، لم تكن تجربته مجرد قفزة، بل كانت بحثًا، وتجربة علمية حقيقية تستند إلى الملاحظة والتطبيق، وهذا جوهر المنهج العلمي.
وربما الأهم من ذلك، أن عباس بن فرناس – في محاولته للطيران – لم يكن يخالف قوانين الطبيعة، بل كان يحاول أن يفهمها. ورغم أن التكنولوجيا لم تسعفه، إلا أن فكره سبق زمانه بقرون.
الخاتمة...
في زمننا اليوم، حيث تحلّق الطائرات بسرعات خارقة وتعبر السماء في ساعات، علينا أن نتذكّر أن أولى الخطوات نحو هذا الحلم لم تبدأ في مصانع بوينغ أو مختبرات ناسا، بل بدأت في عقل رجلٍ أندلسيٍّ عجوز، آمن أن العقل قادر على ملامسة السحاب.
عباس بن فرناس لم يُحلّق فقط بجسده… بل فتح للبشرية جناحي الحلم.