تحديثات الأخبار

بقلم الباحث: محمد سامي نعالوة - طولكرم - شويكة

 

 تشرقُ شمسُ القصيدةِ من مشكاةِ "أنشودة المطر"، حيثُ يعيدُ "السيابُ" رسمَ الوجودِ بأصابعَ تَعجنُ طينَ الذاكرةِ بماءِ الحداثة، فيبثُّ في جسدِ التراثِ البابليِّ نبضاً يرتعشُ بين سكراتِ الموتِ وغبطةِ الميلاد. اتخذَ هذا المبدعُ من ديوانهِ الصادرِ في مطلعِ الستينياتِ مِعراجاً فكرياً، يتجاوزُ فيهِ وصفَ الأنواءِ وتقلباتِ الفصول، ليقيمَ قُدّاساً ابتهالياً غائراً في لُجّةِ الروح، يستنزلُ فيهِ أطيافَ الغابرينَ وقوفاً في وجهِ القحطِ الذي أصابَ الأرضَ والوجدان.

      تبرزُ عِشتار -في قلبِ هذا المحفلِ النوراني- كينونةً مقدسةً، تارةً في هيئةِ حُبٍّ يفيض، وتارةً في جلالِ حربٍ تهرقُ الدماءَ لتطهرَ المدى. عِشتارُ هنا نسيجٌ خفيٌّ يشدُّ أزرَ القصيدة، متحررةً من قيدِ المسمى الصريحِ نحو فضاءِ الرمزِ الشامل؛ فغدتْ عيونُ المها ومآقي الغيمِ وتضاريسُ العراقِ ملامحَ لوجهِها.

     يأخذنا هذا الترحالُ المعرفيُّ إلى أغوارِ النص، لنبصرَ كيفَ استسلمتِ الإلهةُ القديمةُ لغوايةِ التجديد، فاستحالتْ قوةً دافقةً تعيدُ صياغةَ الوعي، وتنسجُ من خيوطِ الألمِ والرجاء ميثاقاً إنسانياً، يجمعُ بين هندسةِ اللفظِ وسحرِ الإيحاء، ليبقى المطرُ صوتاً لعِشتار، والأرضُ مزاراً لخلودِها الأبدي.

عشتار: الإلهة الأبدية في سياق الأسطورة البابلية

     تشرقُ عِشتارُ في سماءِ الذاكرةِ أيقونة سَرمدية، تَكتنزُ في ذاتِها أسرارَ الوجودِ العتيق. قبلَ الارتماءِ في مَرايا القصيدة، تَقِفُ الروحُ إجلالاً أمامَ مَهابةِ هذهِ الربةِ كما نَقشتْها الأساطيرُ فوقَ رُقمِ الطينِ الخالدة.

     تتعددُ مرايا عِشتار، أو "إنانا" في فجرِ السومريين، فَتغدو تارةً غيثاً يَهبُ الأرضَ مَفاتنَ النماء، وتارةً عِشقاً سحرياً يَصهرُ الأرواحَ والأجساد، ومرةً بأسًا يَهدمُ صروحَ العتيقِ لِيُقيمَ صرحَ الآتي.

     يَربطُ الميثاقُ الأزليُّ بينها وبين "تموز"، إلهِ الخصبِ الذي يَرتحلُ في شتاءِ العدمِ لِيُبعثَ في ربيعِ التكوين، فَتغدو عِشتارُ رَمزاً لدورةِ الفناءِ والخلود. وفي مَلحمةِ هبوطِها نحو "العالمِ السفليّ"، تذرفُ الربةُ دموعاً كَونيةً على حبيبِها المفقود، فتجفُّ ضروعُ الأرضِ وتَستكينُ النباتات، لِيعودَ النبضُ من جديدٍ حينَ تَنهمرُ عبراتُها مطراً يُحيي الرميم.

     هذا الدورُ القدسيُّ جَعلَ منها أُمّاً كَونية، تَمنحُ الوجودَ كينونتَهُ وتَقهرُ جفافَ العدم؛ وهو الجوهرُ الذي استلهمَهُ "السيابُ" لِيُسقطهُ على عراقِ العصرِ الحديث، حيثُ استحالَ الوطنُ أرضاً بابليةً تَرزحُ تحتَ نيرِ الجوعِ والظلم، وتَرفعُ أبصارَها شطرَ السماءِ بانتظارِ غيثٍ إلهيٍّ يُعيدُ مَواسمَ الخصب.

    يَتوارى وجهُ عِشتارَ التاريخيّ في "أنشودةِ المطر"، لِيظهرَ كَروحٍ هائمةٍ تَتلبّسُ مفاصلَ النص؛ فتتحولُ القصيدةُ من كلماتٍ مَرصوفةٍ إلى قُدّاسٍ ابتهاليٍّ مَهيب، يَستنزلُ سِحرَ الربةِ لِيَغسلَ أوجاعَ الروحِ ويُطهرَ وجهَ الأرض

تجليات عشتار في بنية القصيدة: من الابتهال إلى الخصب الكوني

     تنسابُ عِشتارُ في مَسامِ "أنشودة المطر" قوة علوية تُعيدُ ترتيبَ العلاقةِ بينَ صوتِ الشاعرِ وقلقِ الوجود، فَيغدو الشِّعرُ تَرنيمةً تَستنهضُ حضورَها القُدسيَّ قهرًا للضياعِ وغلبةً على الموت.

    يَستهلُّ السيابُ مِعراجَهُ بـ "العينين"،  اللتان تَفيضانِ بسِحرِ النخيلِ وغُموضِ السَّحر؛ فهما بوابتانِ لِربةِ الجمالِ والخصب، تَنبعثُ منهما خُضرةُ الكُرومِ وتَتموّجُ فوقَ صَفحتِهما أضواءٌ كأنّها أقمارٌ سابحةٌ في نَهر. هنا يَقِفُ الشاعرُ مَوقفَ الكاهنِ في حَضرةِ المَعبد، فتعتري جَسدَهُ رعشةُ البكاءِ وتَسكُنُ روحَهُ نشوةٌ عاتيةٌ تُعانقُ مَداراتِ السماء، وكأنّهُ يَستديرُ نحو دموعِ عِشتارَ لِتَهطلَ غيثًا يُحيي رَميمَ الكائنات، مِحاكاةً لِتلكَ الأسطورةِ التي جَعلتْ من بكاءِ الإلهةِ على حبيبِها "تموز" فجرًا للمطر.

     يَتعاظمُ حُضورُ الربةِ في ترجيعِ "المطر.. المطر.. المطر"، ذلكَ الإيقاعِ الدوريِّ الذي يَعكسُ دَورانَ الزمانِ في فِكرِ الأسطورة. فالغيثُ هنا كينونةٌ حية، تُمثّلُ زفراتِ عِشتارَ الثقيلةَ وهي تَسحُّ من مآقي الغيوم؛ دموعٌ تَحمِلُ في طياتِها وَجعَ الفقدِ ومَرارةَ الجوع، لكنّها تَختزنُ في ذراتِها وَعدَ الانبعاث؛ ففي كلِّ قَطرةٍ تَنهمرُ ثمّةَ أجنةٌ للزهرِ تَتهيأُ لِلشروق. يَتجلى هنا التناصُ الباذخ، حيثُ يَمزجُ السيابُ بينَ دَمِ العبيدِ المَسفوحِ وبينَ بَسمةِ الوليدِ القادم، لِيُعلنَ أنَّ عِشتارَ (واهبةَ العطاء) تَقومُ الآنَ بِصهرِ الموتِ لِتَصيغَ منهُ مِيلادًا جديدًا لِعالمٍ يَستحقُّ الحياة.

     ويسمو التجلّي العِشتاريُّ لِيُعانقَ أوجاعَ السياسةِ والوطن؛ فالعراقُ هو "تموز" الجريح، يَرتقبُ إشراقةَ رَبتهِ لِتَنتشلهُ من مَخالبِ الردى، وحينَ يَهتفُ الشاعرُ بوجهِ الخليج، فإنهُ يَستنطقُ وَجهَ الإلهةِ التي تَحجبُها سُحبُ الظلمِ ودِثارُ الدماء، الأفعى التي تَلغُ في رَحيقِ الزهرِ تُمثّلُ القوى الغاشمةَ التي تُريدُ وَأدَ الخصوبة، لكنَّ نُبوءةَ المطرِ تظلُّ هي الأقوى، واعدةً بأنَّ عُشبَ العراقِ سَيورقُ رَغماً عن أنفِ الجدب. وهكذا، تَتحولُ عِشتارُ من رَمزٍ شاعريٍّ خاص إلى ثورةٍ كَونيةٍ شريفة، تَجمعُ بينَ حَنينِ الأمِّ المفقودة، وصَرخةِ الجائعِ المَحروم، وأملِ الوطنِ الذي يتهيأُ لِنهضةٍ كبرى.

      تغوصُ الرؤيا في أغوارِ البناءِ الشاعريّ، حيثُ يتخذُ السيابُ من التناصِ الأسطوريِّ مِحوراً يربطُ مَداراتِ الذاتِ بآفاقِ العالم. هنا، في مِحارِ القصيدة، تنهضُ عِشتارُ كقوةٍ مركزيةٍ تُصيغُ الرابطةَ بينَ صوتِ المبدعِ والوجود، فتستحيلُ الربةُ إلى "أُمٍّ كونيّةٍ" تعوضُ غيابَ الأُمِّ التي ارتحلتْ في فجرِ طفولةِ الشاعر، مستنزلةً دموعَها لِتُديرَ رحى الدورةِ الأبديةِ التي تَنبثقُ فيها الحياةُ من مَضاجعِ الموت.

     يتبدّى هذا التجلّي الدوريُّ في تموّجاتِ الإيقاع، حيثُ يترددُ صدى المطرِ كابتهالٍ مقدسٍ يستجيبُ لهُ الكون، محولاً غَصّةَ الحزنِ إلى نشوةٍ عاتية، تشبهُ تلكَ الرعشةَ التي تعتري قلبَ طفلٍ يرقبُ القمرَ بوجلٍ ومحبة. عِشتارُ في هذا الفضاءِ ترفضُ الغياب؛ فهي كينونةٌ حيةٌ تسكنُ كلَّ قطرةِ غيث، تجمعُ في كفّيها بينَ مَواسمِ الخصبِ وسُطوةِ الحرب، وبينَ سعةِ العطاءِ وجلالِ الردى.

     هذا التوظيفُ الحداثيُّ المذهلُ يصهرُ الأسطورةَ في أتونِ الواقعِ العراقيِّ المعاصر، لِيُعلنَ أنَّ الرمزَ ليسَ قناعاً للزينة، بل هو جسرٌ من ضياءٍ يعبرُ فوقَهُ الوجعُ الإنسانيُّ نحو مرافئِ الخلودِ والتجدد.

     تتوهجُ عِشتار في مِحرابِ "أنشودة المطر" كينونةً تتخطى مدياتِ الأسطورةِ، لِتغدو جوهرَ الكلمةِ وسِرَّ اشتعالِ الرؤيا. لقد أرسى السيابُ قناطرَ من ضياءٍ رَبطتْ قلبَ الربةِ بقلبِ الجماعة، فاستحالَ نَحيبُها الكونيُّ مَنهلاً يَعصرُ الأملَ من حَجرِ اليأس، ويَسقي يبابَ الأرواحِ بماءِ اليقين.

     هذا الحلولُ الإعجازيّ، الذي يَصهرُ ابتهالاتِ الشاعرِ المكلومِ بنبوءاتِ الوطنِ الثائر، يَجعلُ من القصيدةِ شاهداً أزلياً على سُلطةِ الحرفِ في استردادِ التاريخِ وصَهرهِ في أتونِ اللحظة؛ فليست عِشتارُ مجردَ صنمٍ بابليٍّ عتيق، بل هي نبضٌ حيٌّ يَسري في مَسامِ الغيم، وقوةٌ واثبةٌ تَتخلقُ مع كلِّ إيقاعٍ يلمسُ وجهَ الثرى.

     يَقومُ هذا الارتحالُ صوبَ الجذورِ البابليةِ مَقامَ المَلاذِ الأخيرِ لمواجهةِ جفافِ الراهن، ويُثبّتُ مكانةَ السيابِ كاهناً لِلحداثةِ، نَسجَ من خيوطِ الماضي ومَواجدِ الآتي سيمفونيةً أدبيةً خالدة، تَعبرُ العصورَ مَحمولةً على أجنحةِ الشِّعرِ والماءِ والخلود.

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعي

اشترك في نشرة اخبارنا