من هيمنة الدولار إلى عصر الذهب: تحولات القوة الاقتصادية في النظام العالمي الجديد
لم يعد الحديث عن "نهاية هيمنة الدولار" مجرّد خرافة اقتصادية يردّدها المعارضون للنظام الرأسمالي الغربي، بل أصبح واقعًا يتجسّد في تحولات استراتيجية جذرية اتخذتها روسيا والصين على مدى العشرين عامًا الماضية.
لطالما استندت ثقة الأسواق العالمية بالسندات الأمريكية إلى عوامل عدة، أبرزها قوة الاقتصاد الأمريكي التي فرضت الدولار كعملة احتياط آمنة، إضافة إلى الاعتقاد الشائع بامتلاك الولايات المتحدة لأكبر احتياطي من سبائك الذهب في العالم، سواء كان مملوكًا لها أو مودعًا لديها من دول أخرى.
لكن اتفاقية "بريتون وودز" التي أعلنها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1971، ونصّت على فكّ الارتباط بين الدولار واحتياطات الذهب، أثارت شكوك المحللين الماليين حول شفافية موازنة احتياط الذهب في الولايات المتحدة.
ومع رفض واشنطن إجراء تدقيق مستقل لمخزونها الذهبي المعلن — الذي يُقدّر بنحو 8130 طنًا ويُعدّ الأكبر عالميًا — بدأت العديد من الدول، وعلى رأسها روسيا والصين، تفكر جديًا في إعادة النظر باعتمادها الكامل على الدولار.
شهد عام 2006 نقطة تحوّل جذرية في الاستراتيجية الاقتصادية الروسية، تزامنت مع تعيين إدارة جديدة للبنك المركزي، فانتقلت موسكو من دولة مصدّرة للذهب إلى دولةٍ مشتريته بكميات كبيرة. وقد برّر الاقتصاديون الروس ذلك آنذاك بأنه يأتي في إطار إعادة النظر في الحسابات القومية، وتجنّب وضع الثقة الكاملة في أداة مالية واحدة.
أدّت الاستراتيجية الروسية الجديدة إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الذهب، إذ تجاوز سعر الأونصة 4200 دولار، ويتوقع محللون اقتصاديون أن يصل إلى 5000 دولار بحلول عام 2026.
إنهاء الارتباط بالدولار جذريًا
مع حلول عام 2014، أدرك صنّاع القرار في موسكو أن العلاقات مع الغرب يشوبها الكثير من سوء النوايا، فبدأت روسيا باستبدال جميع سنداتها الأمريكية بالذهب.
في البداية، بدت هذه الخطوة مجازفةً كبيرة في نظر كثير من المحللين الغربيين، ظنًّا منهم أن عواقبها ستكون وخيمة على الأسواق الروسية بسبب نقص السيولة المالية.
لكن روسيا كانت تمتلك حساباتها الخاصة؛ فاحتمالية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وفرض الغرب عقوبات اقتصادية ضد موسكو لم تكن في حسبان المحللين الماليين الغربيين آنذاك.
نتائج الاستراتيجية الروسية الجديدة
تمكنت موسكو، بفضل هذه الاستراتيجية، من تحقيق نتائج مذهلة على مدى عقدين من الزمن:
أولًا: حققت أرباحًا ضخمة، إذ بلغ احتياطها من الذهب نحو 2300 طن، أي ما يعادل 300 مليار دولار تقريبًا، مما عزّز ثقة الأسواق العالمية بالروبل.
ثانيًا: وجود الذهب ماديًا داخل الأراضي الروسية حال دون تمكّن الغرب من مصادرة أو تجميد أصولها، كما حدث مع سنداتها الدولارية المودعة في البنوك الغربية.
بكين تحذو حذو موسكو
لم تغب تلك التطورات عن أنظار بكين، التي سارعت إلى اتباع النهج ذاته، محققة نتائج مذهلة خلال تسع سنوات، إذ تقلّصت سنداتها الأمريكية من 1.4 تريليون دولار عام 2015 إلى 757 مليار دولار حتى نهاية 2024.
ولم تكتفِ الصين بشراء السبائك الذهبية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بإعلان نيتها أن تصبح مركزًا عالميًا لحفظ احتياطات الذهب التي تمتلكها دول إفريقية وآسيوية، مقابل منحها قروضًا وتمويلات لمشاريع تنموية.
وفي هذا السياق، طرحت الصين مدينة شنغهاي لتكون منافسًا قويًا لمراكز رأس المال العالمية في نيويورك ولندن، اللتين طالما احتكرتا دور السيطرة على سبائك الذهب التي تودعها الدول النامية تحت مسمى "القروض التنموية"، والتي تتحول في الغالب إلى أدوات ضغط وابتزاز سياسي.
كيف واجهت موسكو معضلة السيولة المالية بالشراكة مع بكين؟
لمواجهة أزمة نقص السيولة الناتجة عن التخلي عن السندات الأمريكية، قررت روسيا بالشراكة مع الصين اعتماد عملتي الروبل واليوان في التبادلات التجارية بينهما.
وتوسع هذا النهج لاحقًا ليشمل إيران، والسعودية، ومصر، والإمارات، والأرجنتين، ضمن تحالف اقتصادي أطلق عليه اسم "بريكس"، في خطوة متقدمة للتحرر من هيمنة الدولار.
لكن الأرجنتين جمّدت انضمامها لاحقًا بفعل الضغوط الأمريكية.
تبع ذلك توسّع منظمة "أوبك+" بقيادة السعودية وروسيا والصين عام 2016، لتضمّ لاحقًا 13 دولة عضوًا و10 دول مراقبة، وتهدف إلى التحكم في أسواق الطاقة عبر تقليص الإنتاج، في مواجهة المساعي الأمريكية لزيادته بغية التحكم بأسعار النفط وفق مصالحها الاقتصادية.
ولادة نظام اقتصادي عالمي جديد
إن تراكم احتياطات الذهب داخل روسيا والصين يهدف إلى تقويض هيمنة الدولار الأمريكي على الأسواق المالية، خصوصًا في ظل تزايد المؤشرات على انهيار القواعد الاقتصادية القديمة، وبروز معالم نظام عالمي جديد قائم على التعددية النقدية والاقتصادية.